ألقى الرئيس قيس سعيد إلى الشعب التونسي في عيد الجمهورية خطابا مثقلا بالإيحاءات والرموز، فبعد ديباجة لم يقتصر فيها على البسملة مُجرّدةً نوّه إلى أنه يتكلم في نفس التوقيت الذي أعلن فيه جلولي فارس سنة 1957 إلغاء النظام الملكي وقيام الجمهورية (السادسة مساء من يوم الخميس). ولئن كان معروفا عن الرئيس هوسه الشديد بالأمور الشكلية والتفاصيل والرموز فإن إبراز هذه (المصادفة التاريخية) في صدر هذا الخطاب بالذات والتوقف عندها مطولا يوحي برغبة المتكلم في التلميح إلى وجود رسالة مشفرة من السماء تتعلق بشخصه وبدوره في مجتمعه وفي مسار التاريخ.
تعزز خاتمة الخطاب هذا الإيحاء بخروج الرئيس من وصف (حالة الأمة) على عادة الرؤساء العاديين في الأعياد الوطنية العادية إلى وصف ذاته ومعاناته في خضم صراعه الأبدي مع (المتآمرين والماسونيين والذين ارتموا في أحضان الصهيونية، والذين ينكلون بالشعب ويسرقون قوت المفقرين والبؤساء)، وللتأكيد على ما يشعر به من غربة تمثل بالبيت الشهير الذي كان سببا في تسمية الشاعر أحمَد بن الحُسَين الكِنْدِي بأبي الطيب المتنبي والذي شبّه فيه الشاعر نفسه بصالح في ثمود، لكنه وهو يسترسل في ذكر معاني (الغربة) بدا أشبه بأبي حيان التوحيدي في (الإشارات الإلهية).
بيت المتنبي في غاية البساطة (أراني في أمة تداركها الله، غريب كصالح في ثمود) يقوم على التشبيه الذي يستخدم في البلاغة لإثبات صفة لموصوف(مشبه) باستحضار (مشبه به) تكون الصفة فيه أوضح. وإن كان أبو البقاء العكبري وهو أحد أهم شراح المتنبي أشار إلى اختلاف في تأويل الجملة الاعتراضية (تداركها الله): هل هي دعاء للأمة أم دعاء عليها؟ لكنه يحيل مباشرة إلى القرآن، فقد جاء ذكر صالح وثمود في أكثر من موضع (الأعراف، هود الخ) وثمود كما جاء في تفسير بن كثير (أحياء من العرب العاربة قبل إبراهيم الخليل، عليه السلام، وكانت ثمود بعد عاد، ومساكنهم مشهورة فيما بين الحجاز والشام إلى وادي القرى وما حوله) وجاء في تفسير الطبري أنهم كانوا (في سعةٍ من معايشهم. فقالوا: يا صالح ادع لنا ربك يخرج لنا آية نعلم أنك رسول الله، فدعا صالح ربَّه، فأخرج لهم الناقة) وتلك الناقة هي التي عقروها، فاستحقوا عقابا عظيما من الله (فعقروا ٱلناقة وعتوا عن أمر ربهم وقالوا یـٰصـٰلح ٱئتنا بما تعدنا إن كنت من ٱلمرسلین. فأخذتهم ٱلرجفة فأصبحوا فی دارهم جـٰثمین (77-78، الأعراف).
لقد تعفف الرئيس عن تشبيه نفسه بالمتنبي وهو يستحضر هذا البيت، لكنه لم ينتبه إلى أن القضية ليست في التشبه بالشاعر بل في التشبه بالنبي! وهذا الانحراف من المجال الدنيوي المادي إلى المجال الديني المقدس كان أمرا متوقعا في ضوء عدة مؤشرات متفرقة أدناها يقع في مستوى الخطاب وأقصاها يذهب إلى التصور الرسولي لوظيفة الرئيس الذي أصبح بعد فترة قصيرة من انتخابه على رأس الدولة يعتقد أن دوره يتجاوز حدود الجمهورية للتأثير في مسار التاريخ ومصير الإنسانية!
هل كان الرئيس غافلا عن أن تشبيهَه نفسَه بالنبي صالح في الغربة يستدعي بداهة تشبيه شعبه بقوم ثمود في الفساد، أم كان يقصد ذلك؟ لقد ورد ذكر (ثمود) في القرآن خمسا وعشرين مرة ضمن سياقات مختلفة بمعاني الجحود والنكران والكفر بنعمة الله واستحقاق العقاب الدنيوي قبل عقاب الآخرة، فماذا فعل التونسيون كي يستحقوا خطاب التهديد والوعيد في هذه المناسبة العزيزة على قلوبهم والتي تؤكد وحدتهم وتضامنهم وتمسكهم بقيم الجمهورية والحداثة؟ لقد عقرت ثمود ناقة صالح فأين هي ناقتك التي عقرناها يا سيادة الرئيس؟