ألا ينبغي منع المستقلين من الترشح للانتخابات الرئاسية لقطع الطريق أمام الهواة والمتطفلين والمصابين بتضخم الأنا وانفصام الشخصية، والوافدين على العمل السياسي من الصفوف الأخيرة في الأحزاب الحاكمة بعد سقوطها، والذين يكتشفون في ذواتهم أفكارا ثورية وصفات قيادية بعد فوات الأوان، والمهووسين بنظافة اليد واللسان وهم لم يقولوا ولم يفعلوا شيئا أبدا؟

الانتخابات الرئاسية في تونس

الانتخابات الرئاسية في تونس

في السياسة، كل حديث عن الحياد مغالطة، أما الحديث عن الطهارة فتحيل، لأن الأنظمة السياسية أجهزة لإدارة الشأن العام تسعى في إطار محدودية قدراتها البشرية إلى تحقيق أعلى قدر من العدل والإنصاف بدل إيهام الناس بقدرتها المزعومة على إنشاء المدينة الفاضلة، وبرنامج الرئيس إذن ليس إلا مشروعا إصلاحيا واقعيا لا يقصي أحدا، ويفترض أن يكون عملا جماعيا لا رؤية رسولية وأضغاث تنبؤات فردية رعناء، فالرئاسة وظيفة مدنية، ومن الخطأ أن نذهب إلى صناديق الاقتراع للبحث عن نبي ضائع!
أن تكون نظرية (ثورة الياسمين) قد اقتضت ترويج فكرة انضباط التونسيين وأخلاقهم المثالية فهذا ليس إلا طعما ابتلعه بعضنا مثل سمكة قليلة الحيلة، فصدقوا بسذاجة عن أنفسهم ما ليس فيها، واعتقدوا أن الشعب صالح والنخبة فاسدة!، وأن يكون أملنا قد خاب في الأحزاب التي حكمت البلاد بعد سقوط منظومة الحزب الواحد فهذا لا يعني أن التعددية خطأ وأن الأحزاب ينبغي أن (تضمحل من تلقاء نفسها). وأن تكون بعض الجمعيات المتطرفة أشبه بالعصابات المنظمة فهذا لا يعني القضاء نهائيا على الجمعيات والمجتمع المدني.

في الأنظمة السياسية الديمقراطية لا بد من وجود الأحزاب والنقابات والجمعيات وجماعات الضغط، حتى تجد كل فئة من فئات المجتمع من يدافع عن مصالحها في كنف القانون، فالقانون وحده هو الذي يصهر الفردانية في بوتقة المجتمع، وتحت سقف الدولة يكون التدافع نحو المصلحة الفضلى للجميع حيث لا معنى للخلاص الفردي. وإذا كان ثم من درس يتعين علينا استخلاصه بعد مراكمة الفشل فهو بلا شك ضرورة التخلي في السياسة عن الشعوذة الآن، وإلى الأبد..
إن وضعنا نحن التونسيين على خارطة الحداثة والديمقراطية لا يسمح لنا بإعادة اختراع العجلة وتغيير مسار التاريخ، علينا أن نتواضع كثيرا وأن نتسلح بالعقلانية والواقعية وألا ننساق وراء الخزعبلات، فلن نصنع نظاما عالميا جديدا ولا يمكننا حتى المساهمة في ذلك، ولن نغير بوصلة العولمة واتجاهات الاقتصاد الدولي، ولن نثبت لأحد شيئا غير قدرتنا الخارقة على إعادة إنتاج الفشل واجتراح الأفكار الرثة وصناعة الأوهام وانتظار معجزات لن تقع.
وعلى هذا الأساس ستكون الانتخابات الرئاسية المقبلة مناسبة مثالية لتصحيح مسار 25 جويلية. لا أتحدث هنا عن 25 جويلية 2021، بل أعني 25 جويلية الأصلي سنة 1957، اليوم الذي أعلن فيه المجلس التأسيسي نهاية الدولة الحسينية وبداية جمهورية الاستقلال، فنحن كلنا إذا ما نزعنا عن عيوننا (الغشاوة الثورية) أبناء تلك الجمهورية التي أوهمنا ائتلاف (18 أكتوبر) في الأيام التي أعقبت سقوط نظام (بن علي) أنها لا يمكن إصلاحها، فأخذنا نهدمها بأيدينا، وها إننا نقف على أطلالها.
ستكون الانتخابات الرئاسية فرصة تاريخية لقياس المسافة التي قطعناها في الطريق الخطأ، فكلما طالت هذه المسافة كانت العودة منها أصعب علينا جميعا. وإذا كان لا بد من العودة فلنعد نحن ونفوت الفرصة على الأجيال المقبلة ولا ندعها تسخر منا ومن خياراتنا المصيرية، علينا أن نختار وبشكل حاسم بين أن نكون مجرد متفرجين على عرض مسرحي من نوع (الوان مان شو) أو أن نمد أيدينا جميعا لانتشال الجمهورية وإنقاذها.