الأزمة في بلادنا وإن كانت متعددة الأبعاد (سياسة واجتماعية وثقافية) فإن نواتها الصلبة تكمن في إدارة الشأن الاقتصادي، فنسب النمو والتداين والبطالة كلها مؤشرات إحصائية للإخفاق الذي يتجسد على أرض الواقع في مظاهر مختلفة أخطرها تراجع مستوى خدمات المرافق العامة واستشراء العنف وانعدام الأمن، بما يجعل الحياة اليومية صعبة جدا خصوصا على محدودي الدخل والفئات الاجتماعية التي تحتاج إلى المرافق العمومية ولا يمكنها العيش بدونها. وهو ما يفسر الرغبة الهستيرية في مغادرة البلاد للبحث عن آفاق أفضل للعيش.

المنطق الاقتصادي السليم يفترض أن الضرائب التي تحصلها الدولة تخصص لرعاية المرافق العمومية وهذا هو المفهوم الأصلي للدولة الاجتماعية، ولا معنى للدولة إن لم تكن اجتماعية (من غير الحاجة إلى أدلجة هذا المفهوم والتنازع حوله سياسيا)، ففي الدول الاسكندنافية التي تتصدر الترتيب العالمي في مؤشرات السعادة يدفع المواطنون ضرائب عالية دون تذمر لأنهم يتلقون مقابلها خدمات مرضية في الصحة والنقل والتعليم والبيئة وهي القطاعات الأربعة الأساسية التي يؤدي النهوض بها إلى تحقيق التنمية البشرية وبلوغ أرقى مستوياتها.

أما عندنا فإن هذه القطاعات الأربعة تشكو من نقص حاد في مستويات التمويل العمومي، وما يصلها من أموال دافعي الضرائب يكفي بالكاد لتسييرها بالحد الأدنى، ومن ميزانية إلى أخرى ينحصر تفكير الحكومة دائما في الكيفية التي تسمح لها بالحفاظ على مواطن الشغل التي تمثلها هذه القطاعات، أما تطويرها والنهوض بخدماتها فمن المسائل المؤجلة على الدوام، وهو ما يعني بالضرورة تراجعها وتخلفها عن ركب التطور.

أين تذهب أموال دافعي الضرائب؟

مع الإقرار بأن الدولة عبر حكوماتها المتعاقبة لم تتمكن من إنجاز (ثورة جبائية) حقيقية، فإنها رغم قلة الموارد ملزمة نفسها تحت لافتة: القطاع العام خط أحمر، بتحمل مسؤولية المؤسسات الاقتصادية المفلسة! بدل الإنفاق بالسخاء المطلوب على تلك المرافق التي لا تدخل خدماتها في حسابات الربح والخسارة أو المرافق ذات البعد الاستراتيجي مثل مراكز البحث العلمي والأقطاب التكنولوجية.

ولذلك فعندما يدفع المواطن في دولة أخرى ضريبة من مرتبه الشهري يجد في المقابل مستشفى يقدم خدمات جيدة ووسيلة نقل عام مريحة، بينما يدفع الموظف التونسي ضريبة عالية كي تحافظ الخطوط التونسية على موظفيها وكذلك معمل عجين الورق ومعمل السكر ومعمل التبغ إلى آخر قائمة الشركات (الوطنية) التي تمثل عبئا على المالية العمومية ويرى الخطاب السياسي الرسمي الراهن رغم ذلك أن التفويت فيها يعتبر تنازلا عن السيادة الوطنية!!!

الموظف التونسي يدفع الضريبة لتتمكن الدولة من المحافظة على موطن شغل لموظف آخر في مؤسسة اقتصادية مفلسة ثم يذهب الاثنان إلى مستشفى يقدم خدمات رديئة ويركبان معا حافلة من بقايا أسطول حافلات باريس، وبدل أن تتجه الأموال العمومية إلى تحسين المدارس والقطارات وتبليط الأرصفة وتنقية الهواء وتشجير الحدائق وتوفير المياه وتحسين الإدارات يتجه نصيب هام من المالية العمومية إلى القطاعات التنافسية التي لا يعود ريعها بشكل مباشر لدافعي الضرائب!

إن الاختيارات الاقتصادية لدولة ما تقع عادة داخل إطار إيديولوجي نظري، لكن الوضع في بلادنا يبدو خارج أي إطار وأقرب إلى الفوضى، فلا أحد يستطيع أن يجيبك اليوم بدقة: هل نحن دولة ليبرالية أم اشتراكية؟ هل نحن مع السياسة الحمائية أم مع التنافس الحر؟ هل نحن حقا منخرطون في العولمة ونتبنى حقيقة اقتصاد السوق؟؟  وفي الوقت الذي يبدو فيه أن المخارج الممكنة من الوضع الاقتصادي الراهن تتمثل في تخليص المالية العمومية من عبء القطاعات التنافسية يواصل الخطاب السياسي رفع الشعارات التي تصور أي تنازل عن القطاع العام بمثابة الخيانة العظمى، ويمهد البعض الآن لتمويل الشركات الأهلية المفترض في (فلسفتها) أن تمثل حلا للمبادرة الخاصة ولنسيج المؤسسات الصغرى والمتوسطة الذي يمثل في عديد الدول رافعة اقتصادية مهمة وصمام أمان اجتماعي… وهذا ما يعني أننا نسير بخطى حثيثة داخل نفق لا يؤدي آخره إلى شيء.